قصة الخطيب الصغير للاطفال - قصة قرآنية
حكايات قرآنية معاصرة
تأليف: عبد التواب يوسف
* الخطيب الصغير *
هل فكرت يوماً في أن تصبح خطيباً عظمياً؟ لم يخطر ذلك أبداً على بال حسين، فقد كان كل همه أن يتمكن من أن يتحدث إلى الناس في بساطة، ولم يكن ذلك سهلاً ولا يسيراً. كان المسكين في أزمة كبيرة، ويواجه مشكلة لا يجد لها حلاً. لكن الله يدخر دائماً للمؤمنين طريقاً واضحاً، تهديهم إليه، وما إن يسيروا فيه حتى يجدوا أنفسهم قد وصلوا إلى ما يبغون وما يريدون. بل إنهم أحياناً يحققون أكثر مما كانوا يتمنون ويرجون..
كان الصغير (حسين) يحب التحدث إلى الناس، والكلام معهم، وهو يجد في ذلك متعة كبيرة. كان يسره أن يتلقى الأسئلة من الآخرين ويجيب عما يعرف. وكان يريد أن يعرف، فيلقي عليهم أسئلته من أجل أن يضيفوا إليه جديداً. لكن بعضاً من الكبار لم يكونوا راضين عن ذلك، بل صحت أذنه يوماً كلمة (ثرثار)، على الرغم من أنه لم يكن يطيل في الكلام، كما كان يجيد الاستماع بقدر ما يجيد الحديث. كما أنه كان يحسن اختيار الموضوعات التي يسال عنها أو يتحدث فيها.
وقد قرأ (حسين) الكثير عن أطفال العرب والمسلمين، الذين كانوا في سنه، وتناقل الناس كلماتهم الحلوة الطيبة.
- داركم أم دار الخليفة أفضل؟
- دارنا ما دام الخليفة فيها.
و
- هل رأيت أثمن من هذا الخاتم؟
- نعم، الإصبع الذي هو فيه.
و
- أيسرك أن يكون لديك مال كثير، ولو أنك أحمق؟
- أخشى أن يذهب حمقي بمالي، ويبقى لي الحمق.
و
ذلك الذي قال له الخليفة: اسكت ليتكلم من هو أكبر منك! ورد الصبي أن المرء بأصغريه: قلبه ولسانه.
وكثيراً ما قيلت هذه الكلمات إلى حسين:
- (لا تتكلم) .. (اسكت) .. بل، وأحياناً (اخرس)!
ويتأذى المسكين، ولا يتكلم، ولا ينطق، بل بدأ يكف عن الحديث إلى الآخرين، وباعد ما بينه وبينهم، وأحب الوحده، لأنها تقيه من مثل هذه الكلمات القاسية، واستراح إلى الهمس إلى نفسه، وإذا ما حدث يوماً أن فكر بصوت عال، لم يعدم من يقول له:
- مسكين، إنه يكلم نفسه!
واضطر إلى أن يغلق شفتيه ويقفل فمه، وقلّت كلماته رويداً رويداً، حتى إن أحداً لم يعد يسمع صوته. وهو إذا وجد أنه بات من الضروري أن يتكلم نطق بأقل الكلمات، بل بدأ يتلعثم، ويرتج عليه، وإلى درجة شعر فيها بالمرض.
لاحظت أسرته ذلك، كما تنبه إليه معلموه وأساتذته، كما أن زملاءه أشاروا للأمر أكثر من مرة، وحسين لا يود أن يصارح أحداً بالسر، وإنما كتمه لنفسه، وأبقاه بداخله. إلى أن أصبح مشكلة حقيقية، لا يعرف سبيلاً إلى حلها! ولا يجد من يعرضها عليه أو يحدثه عنها، وراح يفكر فيها بنفسه لنفسه.
فكر.. وفكر.. وفكر..
وكان أطرف ما خطر له سؤال يقول: لماذا نتكلم؟! وراح يحاول أن يجيب. بل لقد حاول أن يضع الإجابة على الورق في كلمات موجزة مركزة.
نحن نسأل، نطلب..
نحن نجيب من يسألنا..
ولدينا ما نقوله.. ما نريد أن نعبر به.
ونتبادل كلمات المجاملة: أهلاً، شكراً، حرماً، سلامتك!
وطالت به قائمة الأسباب وامتدت، وهو يحس أن الكلام ضروري كالطعام. لكن من الطعام ما هو عسر الهضم وثقيل، ومنه ما هو ممتع ولذيذ، وقد لا يكون نظيفاً.. و.. لقد وجد أوجه شبه عديدة، وفارقاً أساسياً: إنك حين تأكل الطعام تأخذ فقط، وحين تتكلم تأخذ وتعطي.. إنه شيء متبادل، يستمتع به طرفان. وسمع يوماً عبارة عن واحد من كتابنا الكبار، كان يغلف الأمر الجاد بكلمات فكهة مرحة.. كان يقول: إننا نحن الكتّاب مثل (عربات الرش)، لا يمكن أن (نرش) إلا غذا امتلأنا.. لقد ضحك للتعبير في البداية، لكنه وجده في النهاية جاداً، وعميقاً، وطريفاً.
وقرر فيما بينه وبين نفسه أن يكون عربة رش..
والسؤال: كيف يملأ هذه العربة؟!
وعندما فكر طويلاً: كيف يمتلئ بالكلمات الحلوة، لم يجد أمامه خيراً من كتاب الله. وبدأ يتلو الآيات، ويتلو.. ولأول مرة أدرك حلاوة تقسيم القرآن الكريم إلى سور، وأجزاء، وأرباع، وآيات.. وأقبل عليه ينهل منه، ولم يمتلئ بالكلمات فقط، بل بالمعاني والأفكار والمبادئ والقيم.. إنه أمام فيض إليه يغمره.. وهو لا يكتفي بالقراءة، بل هو يتمعن فيما يقرأ. هو يقرؤه أكثر من مرة ويفكر فيه ويتدبره في راسه، وهو لا يجد بأساً من ان يلقي أسئلة عما لا يفهمه، والإجابة تزيد الأمور وضوحاً في رأسه.
- كيف غابت عني فكرة قراءة القرآن مرة ومرة ومرات؟
لماذ نهاب قراءته وتلاوته؟ لماذا لا نيقبل عليه بقلب مفتوح؟ من يقول: إنه ليس من السهل فهمه؟ حتى لو كان هذا صحيحاً فليس أروع من الإحساس به.. وحاجتنا إلى ذلك لا تقل عن حاجتنا لفهمه وإدراك معانيه.. اقرأ القرآن بالحس، تحس به أكثر، تستوعبه، تستمتع به، يرعاك ببركاته، ويجعل منك إنساناً آخر.. بشرط واحد: أن تداوم على القراءة والتلاوة!
أحب حسين كتاب الله حباً جماً، وفي لحظات كثيرة كان يشعر أنه يستطيع أن يستغني به عن الكلام مع الناس أو الاستماع إليهم. لكن الكلام كالطعام ضرورة.. وعندما بدأ يواجه من يلقي عليه سؤالاً، أو يتحدث إليه في أمر ما درب نفسه على أن يتلو آية قصيرة من كتاب الله بينه وبين نفسه.. يتلوها في صوت هامس، إنه لا يختار، إنما يتلو الآية التي ترد إلى ذهنه.. وبعدها يجد نفسه قادراً على أن يجيب عما يلقى عليه من أسئلة، وعلى أن يحسن اختيار كلماته، إذ اكبر قاموسه واتسع، وتعرف على الكثير الجديد من الكلمات التي يمكنه أن يعبر بها عن نفسه.. وأعطاه ذلك ثقة في نفسه، فعاد يتحدث إلى الناس، يسأل بلا حرج، ويجيب دون أن يتلعثم، كم كان يدعو ربه.
بسم الله الرحمن الرحيم..
(قال ربّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني ييفقهوا قولي)
لقد أحس بحق أن الله قد شرح له صدره ويسر له أمره وحل عقدة من لسانه، وأن الناس يفقهون قوله.
وعندما اتسعت دائرة قراءة القرآن أصبح حسين قادراً على أن يتلو آية مناسبة لما يحدث أمامه. لم يكن يتباهى بالتلاوة بصوت عال، بل كان يكتفي بقراءتها لنفسه.. وأحسن بعد حين أنه قد أصبح مسموعاً.. لم يعد أحد يقول له: لا تتكلم أو اسكت.. بل أدهشه أن الناس تقبل عليه لتسمعه. غير أنه كان دائماً يتذكر العبارة المرحة التي تقول: إن لنا فماً واحداً وأذنين، وإن علينا أن نسمع ضعف ما نتكلم.. وهو يفرض على نفسه هذا المبدأ، ويحاسبها عليه، ويأبي أن يستأثر بالكلام.. إنه يريد أن يأخذ عن الآخرين، وخاصة هؤلاء الذي يتكلمون عن أفضل ما قرأوه، وما شاهدون، وما سمعوه.. وهو يعرض عن اللغو، وعم يتكلمون عن كل شيء وفي أي شيء..
والطريف أنه كثيراً ما كان يحدث أن يسعى إليه زملاؤه، بل وبعض الكبار ليسألوه رأيه في أمر ما، ويحاول أن يجيب بقدر ما يعرف، بل لقد طلب إليه أصدقاؤه في مسجد المدرسة أن يلقي كلمة وألقاها وكانت موجزة، فلقيت الاستحسان.. وكثيراً ما دعي إلى الإذاعة المدرسية ليتكلم، وكان أحرص ما يكون على ألا يلقي النصائح* بل هو يحكي، يروي، يتحدث.. ويود أن يترك كلامه هذا انطباعاً طيباً في نفس مستمعيه.. ساعتها يشعر بالارتياح، ويحس أنه قد أحسن الكلام.
وحدث يوماً في المدرسة أن فرضت عليهم الإدارة أمراً لم يرتضوه.. وتجمع الطلاب يريدون أن يحتجوا، وأن يوقفوا هذا الأمر، وقد بلغ بهم الغضب منتهاه. كان حسين معهم في رفض ما فرض، لكنه لم يكن معهم في طريقة مواجهته. وفوجئ بزملائه يتجهون إليه، يسالونه رأيه، ويطلبون إليه أن يتكلم.. كان الموقف حرجاً وعلى وشك الانفجار..
وعندما وقف حسين ليتكلم ساد الصمت، ووقف الطلاب كأن على رؤوسهم الطير، وارتجل كلمة قصيرة بليغة، أعادت للجميع هدوءهم، وشدت التفات مدير المدرسة والمعلمين، فسألوه أن يلتقي بهم، ودار بينه وبينهم نقاش هادئ، وإذا بإدارة المدرسة تلغي الأمر، وتعم الفرحة الجميع.. ويلقي المدير كلمة يقول فيها: إن المدرسة بهذا الموقف قد كسبت خطيباً عظيماً، ومتحدثاً ملهماً، ومتكلماً مفوهاً.
وفي هذه اللحظة مر شريط طويل في رأس حسين، بدأ بعدد من الناس يقولون له: لا تتكلم، اسكت، بل اخرس! وتذكر عكوفه على تلاوة القرآن الكريم وكيف قوّم لسانه، وأفاض عليه من خيره وبركاته ما جعله (الخطيب).. ورفع عينيه إلى لاسماء، شاكراً لربه نعمته التي أنعم عليه بها، بعد أن كان يتغثر ويتلعثم حين يتكلم مع شخص واحد، إذا به اليوم قادر على أن يواجه جموعاً غفيرة ليقول لها كلمة طيبة!
لقد كانت فكرة الخطابة فوق آماله وأحلامه، وما كان يتصورها، فهو فضلاً على خوفه من التعثر والتلعثم في الكلام مع الآخرين، لم يكن يجد في نفسه الجرأة في مواجهة جماهير الناس، فما بالكم وهذه الجماهير غاضبة ولا تريد إلا أن تفعل ما تريد، مستغلة تجمعها وقوتها.. وإذا بهذا الخطيب الصغير قادر على أن يكبح جماحها ويقودها إلى ما فيه خيرها، وخير الجميع..
جرب أن تكون مثله، ليس ذلك مستحيلاً ولا صعباً، إنه في إمكانك ومقدورك.. عليك فقط أن تصاحب ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه: القرآن الكريم.
حكايات قرآنية معاصرة
تأليف: عبد التواب يوسف
* الخطيب الصغير *
هل فكرت يوماً في أن تصبح خطيباً عظمياً؟ لم يخطر ذلك أبداً على بال حسين، فقد كان كل همه أن يتمكن من أن يتحدث إلى الناس في بساطة، ولم يكن ذلك سهلاً ولا يسيراً. كان المسكين في أزمة كبيرة، ويواجه مشكلة لا يجد لها حلاً. لكن الله يدخر دائماً للمؤمنين طريقاً واضحاً، تهديهم إليه، وما إن يسيروا فيه حتى يجدوا أنفسهم قد وصلوا إلى ما يبغون وما يريدون. بل إنهم أحياناً يحققون أكثر مما كانوا يتمنون ويرجون..
كان الصغير (حسين) يحب التحدث إلى الناس، والكلام معهم، وهو يجد في ذلك متعة كبيرة. كان يسره أن يتلقى الأسئلة من الآخرين ويجيب عما يعرف. وكان يريد أن يعرف، فيلقي عليهم أسئلته من أجل أن يضيفوا إليه جديداً. لكن بعضاً من الكبار لم يكونوا راضين عن ذلك، بل صحت أذنه يوماً كلمة (ثرثار)، على الرغم من أنه لم يكن يطيل في الكلام، كما كان يجيد الاستماع بقدر ما يجيد الحديث. كما أنه كان يحسن اختيار الموضوعات التي يسال عنها أو يتحدث فيها.
وقد قرأ (حسين) الكثير عن أطفال العرب والمسلمين، الذين كانوا في سنه، وتناقل الناس كلماتهم الحلوة الطيبة.
- داركم أم دار الخليفة أفضل؟
- دارنا ما دام الخليفة فيها.
و
- هل رأيت أثمن من هذا الخاتم؟
- نعم، الإصبع الذي هو فيه.
و
- أيسرك أن يكون لديك مال كثير، ولو أنك أحمق؟
- أخشى أن يذهب حمقي بمالي، ويبقى لي الحمق.
و
ذلك الذي قال له الخليفة: اسكت ليتكلم من هو أكبر منك! ورد الصبي أن المرء بأصغريه: قلبه ولسانه.
وكثيراً ما قيلت هذه الكلمات إلى حسين:
- (لا تتكلم) .. (اسكت) .. بل، وأحياناً (اخرس)!
ويتأذى المسكين، ولا يتكلم، ولا ينطق، بل بدأ يكف عن الحديث إلى الآخرين، وباعد ما بينه وبينهم، وأحب الوحده، لأنها تقيه من مثل هذه الكلمات القاسية، واستراح إلى الهمس إلى نفسه، وإذا ما حدث يوماً أن فكر بصوت عال، لم يعدم من يقول له:
- مسكين، إنه يكلم نفسه!
واضطر إلى أن يغلق شفتيه ويقفل فمه، وقلّت كلماته رويداً رويداً، حتى إن أحداً لم يعد يسمع صوته. وهو إذا وجد أنه بات من الضروري أن يتكلم نطق بأقل الكلمات، بل بدأ يتلعثم، ويرتج عليه، وإلى درجة شعر فيها بالمرض.
لاحظت أسرته ذلك، كما تنبه إليه معلموه وأساتذته، كما أن زملاءه أشاروا للأمر أكثر من مرة، وحسين لا يود أن يصارح أحداً بالسر، وإنما كتمه لنفسه، وأبقاه بداخله. إلى أن أصبح مشكلة حقيقية، لا يعرف سبيلاً إلى حلها! ولا يجد من يعرضها عليه أو يحدثه عنها، وراح يفكر فيها بنفسه لنفسه.
فكر.. وفكر.. وفكر..
وكان أطرف ما خطر له سؤال يقول: لماذا نتكلم؟! وراح يحاول أن يجيب. بل لقد حاول أن يضع الإجابة على الورق في كلمات موجزة مركزة.
نحن نسأل، نطلب..
نحن نجيب من يسألنا..
ولدينا ما نقوله.. ما نريد أن نعبر به.
ونتبادل كلمات المجاملة: أهلاً، شكراً، حرماً، سلامتك!
وطالت به قائمة الأسباب وامتدت، وهو يحس أن الكلام ضروري كالطعام. لكن من الطعام ما هو عسر الهضم وثقيل، ومنه ما هو ممتع ولذيذ، وقد لا يكون نظيفاً.. و.. لقد وجد أوجه شبه عديدة، وفارقاً أساسياً: إنك حين تأكل الطعام تأخذ فقط، وحين تتكلم تأخذ وتعطي.. إنه شيء متبادل، يستمتع به طرفان. وسمع يوماً عبارة عن واحد من كتابنا الكبار، كان يغلف الأمر الجاد بكلمات فكهة مرحة.. كان يقول: إننا نحن الكتّاب مثل (عربات الرش)، لا يمكن أن (نرش) إلا غذا امتلأنا.. لقد ضحك للتعبير في البداية، لكنه وجده في النهاية جاداً، وعميقاً، وطريفاً.
وقرر فيما بينه وبين نفسه أن يكون عربة رش..
والسؤال: كيف يملأ هذه العربة؟!
وعندما فكر طويلاً: كيف يمتلئ بالكلمات الحلوة، لم يجد أمامه خيراً من كتاب الله. وبدأ يتلو الآيات، ويتلو.. ولأول مرة أدرك حلاوة تقسيم القرآن الكريم إلى سور، وأجزاء، وأرباع، وآيات.. وأقبل عليه ينهل منه، ولم يمتلئ بالكلمات فقط، بل بالمعاني والأفكار والمبادئ والقيم.. إنه أمام فيض إليه يغمره.. وهو لا يكتفي بالقراءة، بل هو يتمعن فيما يقرأ. هو يقرؤه أكثر من مرة ويفكر فيه ويتدبره في راسه، وهو لا يجد بأساً من ان يلقي أسئلة عما لا يفهمه، والإجابة تزيد الأمور وضوحاً في رأسه.
- كيف غابت عني فكرة قراءة القرآن مرة ومرة ومرات؟
لماذ نهاب قراءته وتلاوته؟ لماذا لا نيقبل عليه بقلب مفتوح؟ من يقول: إنه ليس من السهل فهمه؟ حتى لو كان هذا صحيحاً فليس أروع من الإحساس به.. وحاجتنا إلى ذلك لا تقل عن حاجتنا لفهمه وإدراك معانيه.. اقرأ القرآن بالحس، تحس به أكثر، تستوعبه، تستمتع به، يرعاك ببركاته، ويجعل منك إنساناً آخر.. بشرط واحد: أن تداوم على القراءة والتلاوة!
أحب حسين كتاب الله حباً جماً، وفي لحظات كثيرة كان يشعر أنه يستطيع أن يستغني به عن الكلام مع الناس أو الاستماع إليهم. لكن الكلام كالطعام ضرورة.. وعندما بدأ يواجه من يلقي عليه سؤالاً، أو يتحدث إليه في أمر ما درب نفسه على أن يتلو آية قصيرة من كتاب الله بينه وبين نفسه.. يتلوها في صوت هامس، إنه لا يختار، إنما يتلو الآية التي ترد إلى ذهنه.. وبعدها يجد نفسه قادراً على أن يجيب عما يلقى عليه من أسئلة، وعلى أن يحسن اختيار كلماته، إذ اكبر قاموسه واتسع، وتعرف على الكثير الجديد من الكلمات التي يمكنه أن يعبر بها عن نفسه.. وأعطاه ذلك ثقة في نفسه، فعاد يتحدث إلى الناس، يسأل بلا حرج، ويجيب دون أن يتلعثم، كم كان يدعو ربه.
بسم الله الرحمن الرحيم..
(قال ربّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني ييفقهوا قولي)
لقد أحس بحق أن الله قد شرح له صدره ويسر له أمره وحل عقدة من لسانه، وأن الناس يفقهون قوله.
وعندما اتسعت دائرة قراءة القرآن أصبح حسين قادراً على أن يتلو آية مناسبة لما يحدث أمامه. لم يكن يتباهى بالتلاوة بصوت عال، بل كان يكتفي بقراءتها لنفسه.. وأحسن بعد حين أنه قد أصبح مسموعاً.. لم يعد أحد يقول له: لا تتكلم أو اسكت.. بل أدهشه أن الناس تقبل عليه لتسمعه. غير أنه كان دائماً يتذكر العبارة المرحة التي تقول: إن لنا فماً واحداً وأذنين، وإن علينا أن نسمع ضعف ما نتكلم.. وهو يفرض على نفسه هذا المبدأ، ويحاسبها عليه، ويأبي أن يستأثر بالكلام.. إنه يريد أن يأخذ عن الآخرين، وخاصة هؤلاء الذي يتكلمون عن أفضل ما قرأوه، وما شاهدون، وما سمعوه.. وهو يعرض عن اللغو، وعم يتكلمون عن كل شيء وفي أي شيء..
والطريف أنه كثيراً ما كان يحدث أن يسعى إليه زملاؤه، بل وبعض الكبار ليسألوه رأيه في أمر ما، ويحاول أن يجيب بقدر ما يعرف، بل لقد طلب إليه أصدقاؤه في مسجد المدرسة أن يلقي كلمة وألقاها وكانت موجزة، فلقيت الاستحسان.. وكثيراً ما دعي إلى الإذاعة المدرسية ليتكلم، وكان أحرص ما يكون على ألا يلقي النصائح* بل هو يحكي، يروي، يتحدث.. ويود أن يترك كلامه هذا انطباعاً طيباً في نفس مستمعيه.. ساعتها يشعر بالارتياح، ويحس أنه قد أحسن الكلام.
وحدث يوماً في المدرسة أن فرضت عليهم الإدارة أمراً لم يرتضوه.. وتجمع الطلاب يريدون أن يحتجوا، وأن يوقفوا هذا الأمر، وقد بلغ بهم الغضب منتهاه. كان حسين معهم في رفض ما فرض، لكنه لم يكن معهم في طريقة مواجهته. وفوجئ بزملائه يتجهون إليه، يسالونه رأيه، ويطلبون إليه أن يتكلم.. كان الموقف حرجاً وعلى وشك الانفجار..
وعندما وقف حسين ليتكلم ساد الصمت، ووقف الطلاب كأن على رؤوسهم الطير، وارتجل كلمة قصيرة بليغة، أعادت للجميع هدوءهم، وشدت التفات مدير المدرسة والمعلمين، فسألوه أن يلتقي بهم، ودار بينه وبينهم نقاش هادئ، وإذا بإدارة المدرسة تلغي الأمر، وتعم الفرحة الجميع.. ويلقي المدير كلمة يقول فيها: إن المدرسة بهذا الموقف قد كسبت خطيباً عظيماً، ومتحدثاً ملهماً، ومتكلماً مفوهاً.
وفي هذه اللحظة مر شريط طويل في رأس حسين، بدأ بعدد من الناس يقولون له: لا تتكلم، اسكت، بل اخرس! وتذكر عكوفه على تلاوة القرآن الكريم وكيف قوّم لسانه، وأفاض عليه من خيره وبركاته ما جعله (الخطيب).. ورفع عينيه إلى لاسماء، شاكراً لربه نعمته التي أنعم عليه بها، بعد أن كان يتغثر ويتلعثم حين يتكلم مع شخص واحد، إذا به اليوم قادر على أن يواجه جموعاً غفيرة ليقول لها كلمة طيبة!
لقد كانت فكرة الخطابة فوق آماله وأحلامه، وما كان يتصورها، فهو فضلاً على خوفه من التعثر والتلعثم في الكلام مع الآخرين، لم يكن يجد في نفسه الجرأة في مواجهة جماهير الناس، فما بالكم وهذه الجماهير غاضبة ولا تريد إلا أن تفعل ما تريد، مستغلة تجمعها وقوتها.. وإذا بهذا الخطيب الصغير قادر على أن يكبح جماحها ويقودها إلى ما فيه خيرها، وخير الجميع..
جرب أن تكون مثله، ليس ذلك مستحيلاً ولا صعباً، إنه في إمكانك ومقدورك.. عليك فقط أن تصاحب ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه: القرآن الكريم.